فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن الحسن عن عِمران بن حُصين.
وفيه: فيئِس القوم حتى ما أبْدَوْا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خلِيقتين ما كانتا مع شيء إلا كثّرتاه يأجوج وماجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس» قال: فَسُرِّيَ عن القوم بعضُ الذي يجدون؛ فقال: «اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشّامَة في جنب البعير أو كالرَّقْمة في ذراع الدابة». قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يا آدم فيقول لَبّيْكَ وسَعْدَيك والخيرُ في يديك قال يقول: أخْرِج بَعْثَ النار قال: وما بعث النار قال: من كل ألفٍ تِسعمَائةٍ وتسعةً وتسعين قال: فذاك حين يَشيبُ الصغير وتَضَع كلُّ ذات حمل حملها وترى الناس سُكارَى وما هم بسكارَى ولَكِن عذاب الله شديد».
قال: فاشتدّ ذلك عليهم؛ قالوا: يا رسول الله، أيُّنَا ذلك الرجل؟ فقال: «أبشِروا فإن من يأجوجَ وماجوجَ ألفًا ومنكم رجل» وذكر الحديث بنحو ما تقدّم في حديث عمران بن حصين.
وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدّثنا أحمد ابن محمد بن نافع قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى ولَكِن عذابَ الله شديد} قال: نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مَسِير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال: «أتدرون أيَّ يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بَعْثَ أهل النار من كل ألف تِسعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة.
فكَبُر ذلك على المسلمين؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سَدِّدُوا وقارِبوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشّامَة في جنب البعير أو كالرَّقْمة في ذراع الحمار وإن معكم لخليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثّرتاه يأجوج وماجوج ومن هلك من كفرة الجن والإنس»
.
قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ} المراد بهذا النداء المكلَّفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونَواهِيه أن تُقدِموا عليها.
والاتقاء الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدّم في أوّل البقرة القولُ فيه مستوفًى، فلا معنى لإعادته.
والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته.
قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة شدّة الحركة؛ ومنه {وَزُلْزِلُواْ حتى يقول الرسول} [البقرة: 214].
وأصل الكلمة من زَلّ عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرّك.
وزلزل الله قَدَمه؛ أي حركها.
وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء.
وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور.
وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} الهاء في {تَرَوْنَهَا} عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوّي هذا قوله عز وجل: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}.
والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا.
وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عِمران بن حُصين الذي ذكرناهـ. وفيه: «أتدرون أيّ يوم ذلك...» الحديث.
وهو الذي يقتضيه سياق مُسْلم في حديث أبي سعيد الخُدْريّ.
قوله: {تَذْهَلُ} أي تشتغل؛ قاله قُطْرُب.
وأنشد:
ضَرْبًا يُزيل الهام عن مَقِيلهِ ** ويُذهِل الخَليلَ عن خَليلهِ

وقيل: تنسى، وقيل تلهو، وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب.
{عَمَا أرضعت} قال المبرّد: ما بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الأرضاع.
قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حَمْل وإرضاع.
إلا أن يقال: من ماتت حاملًا تُبعث حاملًا فتضع حملها للهَوْل.
ومن ماتت مُرضعة بُعثت كذلك.
ويقال: هذا كما قال الله عز وجل: {يَوما يَجْعَلُ الولدان شِيبًا} [المزمل: 17].
وقيل: تكون مع النفخة الأولى.
وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرّك الناس من قبورهم في النفخة الثانية.
ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارةً عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ} [البقرة: 214] وكما قال عليه السلام: «اللهم اهزمهم وزلزلهم» وفائدة ذكر هَوْل ذلك اليوم التحريضُ على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح.
وتسمية الزلزلة بـ: {شيء} إما لأنها حاصلة متيقَّن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمَّى شيئًا وهي معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجودات.
وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم.
وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذًا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس؛ كما قال: {وَتَرَى الناس سكارى} أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع.
{وما هم بسكارى} من الخمر.
وقال أهل المعاني: وترى الناس كأنهم سكارى.
يدلّ عليه قراءة أبي زُرْعة هَرِم بن عمرو بن جرير بن عبد الله {وتُرَى الناس} بضم التاء؛ أي تظن ويخيّل إليك.
وقرأ حمزة والكسائِيّ {سَكْرَى} بغير ألف.
الباقون {سُكارى} وهما لغتان لجمع سكران؛ مثلُ كَسْلى وكُسَالى.
والزلزلة: التحريك العنيف.
والذهول: الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغَل عنه من همّ أو وجع أو غيره.
قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}.
هذه السورة مكية إلا {هذان خصمان} إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس أيضًا إنهن أربع آيات إلى قوله: {عذاب الحريق} وقال الضحاك: هي مدنية.
وقال قتادة: إلاّ من قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول}- إلى قوله- {عذاب مقيم} وقال الجمهور: منها مكي ومنها مدني.
ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم.
نزلت هذه السورة تحذيرًا لهم وتخويفًا لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدّة هولها، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات، والظاهر أن قوله: {يا أيها الناس} عام.
وقيل: المراد أهل مكة، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي {اتقوا} عذاب {ربكم}، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى.
وقيل: عند الثانية.
وقيل: عند قول الله يا آدم ابعث بعث النار.
وقال الجمهور: في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها.
وعن الحسن: يوم القيامة.
وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه {إذا زلزلت الأرض زلزالها} والناس ونسبة الزلزلة إلى {الساعة} مجاز، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف، فتكون {الساعة} مفعولًا بها وعلى هذه التقادير يكون ثم {زلزلة} حقيقة.
وقال الحسن: أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة.
وقيل: الزلزلة استعارة، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و{شيء} هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال: جعل الزلزلة شيئًا لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود.
وذكر تعالى أهول الصفات في قوله: {ترونها} الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملًا على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلاّ بالتقوى.
وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلًا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ير أكثر باكيًّا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرًا، وكانوا من بين حزين باك ومفكر.
والناصب ليوم {تذهل} والظاهر أن الضمير المنصوب في {ترونها} عائدًا على الزلزلة لأنها المحدث عنها، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل، ويكون ذلك في الدنيا.
وعن الحسن {تذهل} المرضعة عن ولدها لغير فطام {وتضع} الحامل ما في بطنها لغير تمام.
وقالت فرقة: الضمير يعود على {الساعة} فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم: يوم يشيب فيه الوليد.
وجاء لفظ {مرضعة} دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب، بمعنى ذات رضاع.
وكما قال الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ** بني بطنها هذا الضلال عن القصد

والظاهر أن ما في قوله: {عما أرضعت} بمعنى الذي، والعائد محذوف أي أرضعته، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله: {حملها} لا إلى المصدر.
وقيل: ما مصدرية أي عن إرضاعها.
وقال الزمخشري: المرضعة هي التي في حال الأرضاع تلقم ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الأرضاع في حال وصفها به.
فقيل {مرضعة} ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت

البيت فهذه {مرضعة} بالتاء وليست أمَا للذي ترضع.
وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة.
وقرأ الجمهور {تذهل كل} بفتح التاء والهاء ورفع كل، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي {تذهل} الزلزلة أو الساعة كل بالنصب، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وقرأ الجمهور {وترى} بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة.
وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء، ورفع {الناس} وأنث على تأويل الجماعة.
وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا {الناس} عدّى {ترى} إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في {ترى} وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث {الناس سكارى} أثبت أنهم {سكارى} على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل.
وقرأ الجمهور {سُكارى} فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع.
وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران.
وقال أبو حاتم: هي لغة تميم.
وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سُكرى فيهما، ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة.
وقال سيبويه: وقوم يقولون {سكرى} جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب.
قال أبو على الفارسي: ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه: رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع.
وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سُكرى بضم السين فيهما.
قال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو على انتهى.
وقال الزمخشري: هو غريب.
وقال أبو الفضل الرازي: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لَكِنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى.
وعن أبي زرعة أيضًا سُكرى بفتح السين بسُكرى بضمها.
وعن ابن جبير أيضًا سكرى بالفتح من غير ألف {بسكارى} بالضم والألف.
وعن الحسن أيضًا {سكارى} بسكرى.
وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعًا رائيين لها.
ثم قال: {وترى} على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر، فجعل كل واحد رائيًّا لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن {عذاب الله} أنه {شديد} لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى، وكأنه قيل: وهذه أحوال هينة {ولَكِن عذاب الله شديد} وليس بهين ولا لين لأن لَكِن لابد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها. اهـ.